فصل: تفسير الآيات (8- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (8- 10):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ...} الآية، قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين، {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ}: هو قولهم: السَّامُ عليكم، يريدون الموتَ، ثم كشف اللَّه تعالى خُبْثَ طَوِيَّتِهِمْ والحُجَّةَ التي إليها يستروحون، وذلك أَنَّهُمْ كانوا يقولون: لو كان محمد نبيًّا لعذبنا بهذه الأقوال التي تسيئه، وجَهِلُوا أَنَّ أمرهم مُؤَخَّرٌ إلى عذاب جهنم.
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ...} الآية: وصِيَّةٌ منه سبحانه للمؤمنين أَلاَّ يتناجوا بمكروه، وذلك عامٌّ في جميع الناس إلى يوم القيامة.
وقوله: {إِنَّمَا النجوى} أي: بالإِثم {مِنَ الشيطان} وقرأ نافع وأهل المدينة: {لِيُحْزِنَ} بضم الياء وكسر الزاي، الفعل مُسْنَدٌ إلى الشيطان، وقرأ أبو عمرو وغيره: {لِيَحْزُنَ} بفتح الياء وضم الزاي، ثم أخبر تعالى أَنَّ الشيطان أو التناجي الذي هو منه، ليس بضارٍّ أحداً إلاَّ أَنْ يكونَ ضُرَّ بإذن اللَّه، أي: بأمره وقَدَرِهِ، ثم أمر بتوكُّلِ المؤمنين عليه تبارك وتعالى.

.تفسير الآيات (11- 12):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ في المجالس...} الآية، وقرأ عاصم: {في المَجَالِسِ} قال زيد بن أسلم وقتادة: هذه الآية نزلت بسبب تضايُقِ الناس في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أَنَّهُمْ كانوا يتنافسون في القُرْبِ منه وسَمَاعِ كلامه والنظر إليه، فيأتي الرجلُ الذي له الحَقُّ والسِّنُّ والقَدَمُ في الإسلام، فلا يجد مكاناً، فنزلت بسبب ذلك، وروى أبو هريرة أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ فِيهِ الرَّجُلُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ»، قال جمهور العلماء: سببُ نزولِ الآية مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ثم الحكم مُطَّرِدٌ في سائر المجالس التي هي للطاعات؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّكُمْ إلَى اللَّهِ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ في الصَّلاَةِ، وَرُكَباً في المَجَالِسِ»، وهذا قول مالك رحمه اللَّه، وقال: ما أرى الحكم إلاَّ يَطَّرِدُ في مجالس العلم ونحوها غَابِرَ الدهر؛ قال * ع *: فالسنة المندوبُ إليها هي التفسُّحُ، والقيامُ مَنْهِيٌّ عنه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيثُ نهى أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ؛ فَيَجْلِسَ الآخَرُ مَكَانَهُ.
* ت *: وقد روى أبو دَاوُدَ في سننه عن سَعِيدِ بْنِ أبي الحَسَنِ قال: «جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ في شَهَادَةٍ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ، وَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَنَهَى أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ بِثَوْبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ» وروى أبو داودَ عن ابن عمر قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَذَهَبَ لِيَجْلِسَ فِيهِ، فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انتهى، قال * ع *: فَأَمَّا القيام إجلالاً فجائز بالحديث، وهو قوله عليه السلام حين أقبل سعد بن معاذ: «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» وواجب على المُعَظَّمِ أَلاَّ يُحِبَّ ذَلِكَ وَيَأْخُذَ النَّاسَ بِهِ؛ لقوله عليه السلام: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَاماً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». *
ت *: وفي الاحتجاج بقضية سعد نظر؛ لأَنَّها احْتَفَّتْ بِها قرائن سَوَّغَتْ ذلك؛ انظر السير، وقد أطنب صاحب المدخل في الإنحاء والرَّدِّ على المجيزين للقيام، والسلامةُ عندي تركُ القيام.
وقوله تعالى: {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} معناه: في رحمته وَجَنَّتِهِ.
* ص *: {يَفْسَحِ} مجزوم في جواب الأمر، انتهى، {وَإِذَا قِيلَ انشزوا} معناه: ارتفعوا، وقوموا فافعلوا ذلك؛ ومن رياض الصالحين للنوويِّ: وعن عمرو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّهِ، أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلاَّ بِإذْنِهِمَا»
رواه أبو داودَ، والترمذيُّ وقال: حديث حسن، وفي رواية لأبي داودَ: «لاَ يَجْلِسْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلاَّ بِإذْنِهِمَا» وعن حُذَيْفَةَ- رضي اللَّه عنه- أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الحَلْقَةِ»، رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذيُّ عن أبي مِجْلِزٍ؛ أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: «مَلْعُونٌ على لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَوْ لَعَنِ اللَّهُ على لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ» قال الترمذيُّ: حديث حسن صحيح، انتهى.
وقوله سبحانه: {يَرْفَعِ الله الذين ءَامَنُواْ مِنكُمْ...} الآية: قال جماعة: المعنى: يرفع اللَّه المؤمنين العلماءَ درجاتٍ؛ فلذلك أمر بالتفسُّح من أجلهم، وقال آخرون: المعنى: يرفع اللَّه المؤمنين والعلماءَ الصنفينِ جميعاً درجاتٍ، لَكِنَّا نعلمُ تفاضُلَهم في الدرجات من مواضعَ أُخَرَ؛ فلذلك جاء الأمر بالتفسح عامًّا للعلماء وغيرهم، وقال ابن مسعود وغيره: {يَرْفَعِ الله الذين ءَامَنُواْ مِنكُمْ} وهنا تَمَّ الكلامُ، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات، ونصبهم بإضمار فعلٍ، فللمؤمنين رفع على هذا التأويل، وللعلماء درجات، وعلى هذا التأويل قال مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّخِّيرِ: فَضْلُ العلمِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَضْلِ العِبَادَةِ، وخيرُ دِينِكُمُ الوَرَعُ، وروى البخاريُّ وغيره عن أبي موسى عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بهِ مِنَ الهدى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الماء، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ؛ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا، وَسُقُوا، وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أخرى إنَّما هِيَ قِيَعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءَ، وَلا تُنْبِتُ كَلأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» انتهى.
وقوله تعالى: {ياأيها الَّذِينَ ءَامَنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} روي عن ابن عباس وقتادة في سببها: أَنَّ قوماً من شباب المؤمنين وأغْفَالِهِمْ كَثُرَتْ مناجاتُهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غير حاجة، وكان صلى الله عليه وسلم سَمْحاً، لا يَرُدُّ أحداً، فنزلت هذه الآية مُشَدِّدَةً عليهم، وقال مقاتل: نزلتْ في الأغنياء؛ لأَنَّهُمْ غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته، قال جماعة من الرواة: نُسِخَتْ هذه الآيةُ قبل العمل بها، لكنِ استقر حُكْمُهَا بالعزم عليه، وصَحَّ عن عليٍّ أَنَّهُ قال: «ما عَمِلَ بها أَحَدٌ غيري، وأنا كنتُ سَبَبَ الرخصة والتخفيفِ عن المسلمين، قال: ثم فَهِمَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هذه الْعِبَادَةَ قد شَقَّتْ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لي: يَا عَلِيُّ، كَمْ ترى أَنْ يَكُونَ حدُّ هذه الصَّدَقَةِ؟ أَتَرَاهُ دِينَاراً؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَنِصْفُ دِينِارٍ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَكَمْ؟ قُلْتُ: حَبَّةٌ مِنْ شَعِيرٍ، قَالَ: إنَّكَ لَزَهِيدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ»، يريد لِلْوَاجِدِينَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ فَالرُّخْصَةُ لَهُ ثَابِتَةٌ؛ بقوله: «فَإنْ لَمْ تَجِدُوا» قال الفخر: قوله عليه السلام لعليٍّ: «إنَّكَ لَزَهِيدٌ» معناه: إنك قليل المال، فقدَّرْتَ على حَسَبِ حالك، انتهى.

.تفسير الآيات (13- 18):

{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)}
وقوله سبحانه: {ءَأَشْفَقْتُمْ...} الآية: الإشفاق: هنا الفزع من العجز عن الشيء المتصدق به، أو من ذهاب المال في الصدقة.
وقوله: {فَأَقِيمُواْ الصلاة...} الآية: المعنى: دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعِدُ شرعكم، ومَنْ قال: إنْ هذه الصدقة منسوخة بآية الزكاة؛ فقوله ضعيف.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ}: نزلت في قوم من المنافقين، تولوا قوماً من اليهود، وهمُ المغضوب عليهم، قال الطبري: {مَّا هُم مِّنكُمْ}: يريد به المنافقين {وَلاَ مِنْهُمْ} أي: ولا من اليهود، وهذا التأويل يجري مع قوله تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143] كالشاة العائرة بين الغنمين، وتحتمل الآية تأويلاً آخرَ، وهو أَنْ يكونَ قوله: {مَّا هُم} يريد به اليهودَ {وَلاَ مِنْهُمْ} يريد به المنافقين، {وَيَحْلِفُونَ}: يعني المنافقين، وقرأ الحسن: {اتخذوا أيمانهم} بكسر الهمزة، والجُنَّةُ: ما يُتَسَتَّرُ به، ثم أخبر تعالى عن المنافقين في هذه الآية أَنَّهُ ستكون لهم أيمان يومَ القيامة بين يدي اللَّه تعالى، يخيل إليهم بجهلهم أَنَّها تنفعهم، وتُقْبَلُ منهم، وهذا هو حسابهم {أَنَّهُمْ على شَئ} أي: على شيء نافع لهم.

.تفسير الآيات (19- 22):

{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
وقوله تعالى: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} معناه: تَملَّكَهُمْ من كل جهة، وغلب على نفوسهم، وحُكِيَ أَنَّ عمر قرأ: {اسْتَحَاذَ}، ثم قضى تعالى على مُحَادِّه بِالذُّلِّ، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله سبحانه: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ...} الآية: نَفَتْ هذه الآيةُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ يؤمن باللَّه حَقَّ الإيمان، ويلتزم شُعَبَهُ على الكمال يَوَادُّ كافراً أو منافقاً، و{كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان}: معناه: أثبته وخلقه بالإيجاد.
وقوله: {أولئك}: إشارة إلى المؤمنين الذين يقتضيهم معنى الآية؛ لأَنَّ المعنى: لكنك تجدهم لا يوادُّونَ مَنْ حادَّ اللَّه.
وقوله تعالى: {بِرُوحٍ مِّنْهُ} معناه: بهدى منه ونور وتوفيق إلهي ينقدح لهم من القرآن وكلامِ النبي صلى الله عليه وسلم والحزب: الفريقُ، وباقي الآية بَيِّنٌ.

.تفسير سورة الحشر:

وهي مدنية باتفاق.
وهي سورة بني النضير؛ وذلك أنهم كانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يرون أنه لا ترد له راية، فلما كان شأن أحد وما أكرم الله به المسلمين ارتابوا وداخلوا قريشا وغدروا، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد حاصرهم حتى أجلاهم عن أرضهم، فارتحلوا إلى بلاد مختلفة خيبر والشام وغير ذلك، ثم كان أمر بني قريظة مرجعه من الأحزاب.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)}
قوله تعالى: {سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} الآية: تقدم الكلامُ في تسبيح الجمادات و{الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب}: هم بنو النضير.
وقوله: {لأَوَّلِ الحشر}: قال الحسن بن أبي الحسن وغيره: يريد حَشْرَ القيامة، أي: هذا أَوَّلُهُ والقيامُ من القبور آخره، وقال عِكْرَمَةُ وغيره: والمعنى: لأول موضع الحشر، وهو الشام؛ وذلك أَنَّ أكثرهم جاء إلى الشام، وقد رُوِيَ أَنَّ حشرَ القيامة هو إلى بلاد الشام.
وقوله سبحانه: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ}: يريد لمنعتهم وكثرة عددهم.
وقوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين} أي: كُلَّما هدم المسلمون من تحصينهم في القتال هدموا هم من البيوت؛ ليجبروا الحصن.
* ت *: والحاصل أَنَّهم يخربون بيوتهم حِسًّا ومعنى؛ أَمَّا حِسًّا فواضح، وأَمَّا معنى فبسوء رأيهم وعاقبة ما أضمروا من خيانتهم وغدرهم، {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء}: من الوطن {لَعَذَّبَهُمْ في الدنيا}: بالسبي والقتل، قال البخاريُّ: والجلاء: الإخراج من أرض إلى أرض، انتهى.

.تفسير الآيات (5- 7):

{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}
وقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ...} الآيةُ سببُهَا قولُ اليهود: ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد؟! فَرَدَّ اللَّهُ عليهم بهذِهِ الآية، قال ابن عباس وجماعة من اللغويين: اللِّينَةُ من النخيل: ما لم يكن عجوةً، وقيل غير هذا.
* ص *: أصل {لِينَة}: لونة، فقلبوا الواوَ ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، وجمعه لِينٌ؛ كَتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، قال الأخفش: واللينة كأنَّها لونٌ من النخل، أي: ضرب منه، انتهى.
وقوله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ...} الآية، إعلام بأَنَّ ما أخذ لبني النضير ومن فَدَك، هو خاصٌّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها؛ بل على حكم خُمُسِ الغنائم؛ وذلك أَنَّ بني النضير لم يُوجَفْ عليها ولا قُوتِلَتْ كبيرَ قتالٍ، فأخذ منها صلى الله عليه وسلم قُوتَ عيالِهِ، وقَسَمَ سائرها في المهاجرين، وأدخل معهم أبا دُجَانَةَ وسَهْلَ بن حنيف من الأنصار؛ لأَنَّهما شكيا فقراً، والإيجاف: سرعة السير، والوجيف دون التقريب؛ يقال: وَجَفَ الفرسُ وأوجفه الراكبُ.
وقوله تعالى: {مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى...} الآية: أهل القرى في هذه الآية: هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب، وذلك أَنَّها فُتِحَتْ في ذلك الوقت من غير إيجاف، وأعطى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم جميعَ ذلك للمهاجرين، ولم يحبس منها لنفسه شيئاً، ولم يعط الأنصار شيئاً لغناهم، والقُرْبَى في الآية: قرابته صلى الله عليه وسلم مُنِعُوا الصدقةَ فَعُوِّضُوا من الفيء.
وقوله سبحانه: {كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ}: مخاطبة للأنصار؛ لأَنَّهُ لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غَنِيٌّ، والمعنى: كي لا يتداول ذلك المالَ الأغنياءُ بتصرفاتهم، ويبقى المساكينُ بلا شيءٍ، وقد مضى القولُ في الغنائم في سورة الأنفال، ورُوِيَ أَنَّ قوماً من الأنصار تَكَلَّمُوا في هذه القرى المُفْتَتحَةِ، وقالوا: لنا منها سَهْمُنَا، فنزل قوله تعالى: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ...} الآية: فَرَضُوا بذلك، ثم اطَّرَدَ بعدُ معنى الآية في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه، حَتَّى قال قوم: إنَّ الخمر مُحَرَّمَةٌ في كتاب اللَّه بهذه الآية، وانتزع منها ابن مسعود لعنة الواشمة، الحديث.
* ت *: وبهذا المعنى يحصل التعميم للأشياء في قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَئ.}